58- وصيَّتي بملازمة التقوى:

التقوى: هي الخوف من غضب الله تعالى وهي على ثلاثة أقسام ظاهرية وواقعية ووسطية. فالظاهرية هي أن الإنسان يتظاهر بالإيمان والتقوى والعمل الصالح بدون أن يكون شيء في قلبه, وهو المنافق والمرائي والكذاب والطماع الذي لم يخشَ الله تعالى.
والواقعية وهي صعبة جداً وهي درجة العصمة في الإنسان إذا ضبط حواسَّه وشعوره الباطني بلا أي قصد لأي عمل إلا نية التقوى والرضوان.
والوسطية وهي التي عند أوساط المؤمنين أنه يتقي الله في ظاهره وقلبه ولكن يشوبه كثيراً نوايا غش ومخالفة مثلاً أنه حين يقرض القرض يقصد في قلبه أنه لو زاده المستقرض شيئاً, وهذا ليس بربا لأنه لم يشترط الزيادة وإنما النيّة ربوية ليست حقه فيخف بذلك أجره، وآخر يعمل الإحسان ويتمنى أنه لو يذكر ويمدح ويعظم على عمله فكذلك وأنت لم ترَ منه أي أثر من ذلك القصد ولو اطلع الناس على هذا القصد لنبذوه فهو يتكتم به خوفاً من الناس ولم يخف من الله العالم بما تخفي الصدور فقد اعتبره سبحانه أهون الناظرين ويا ويله بهذا القصد، ثم إن الأعمال في نفسها إما موجبة لعدم التقوى كالأعمال المحرمة والشبهات والرذائل أو في نفسها لا تخالف التقوى ولكن النوايا فيها كما مرّ خلاف التقوى.
فالتقوى هي ضبط القلب ومقاصده في سماعه وبصره وتحسُّسه بأي نوع من الحس ولذا إن الله قد صرّح بأن الله لا يريد منكم العمل وإنما يريد التقوى بالعمل ((لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)) الحج. وقال تعالى ((لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)) الأحزاب.
إن الإنسان الصادق يُسأل يوم القيامة أنه ماذا قصد في قلبه حين صدق إذ ربَّ خطيب يعظ الناس ويحسن خطبته مشحونة بالآيات و الأحاديث والإيمان والتقوى, ولكن يقصد في قلبه تفضيل الناس له على مؤمن آخر أو إستغابة لشخص وإن لم يصرّح بمقصده أو خداعاً لامرأة حتى ترضى به أو حتّى تؤمن به فتختلي به ولو بالوجه غير الشرعي وهكذا..
ويدخل في القصد الثاني كونه حراماً أو حلالاً كما إذا قصد إهانة شخص يستحق شرعاً الإهانة وهكذا فإن كان القصد الثانوي حراماً فقد يحبط أجره بوعظه, وقد يزاد إثماً، وإن كان حلالاً أو راجحاً شرعاً أو واجباً وهكذا.. (فلكل درجات مما عملوا).
كما في الآية الكريمة ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)) الملك. ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)) آل عمران.
والحاصل فضبط النفس على الإيمان والتقوى يحتاج إلى مجاهدات وتدريبات كثيرة من صوم وصلاة وقراءة القرآن والكتب الدالة على التقوى وأهوال يوم الحساب ولذا قال أمير المؤمنين (ع) (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى).
وقال النبي (ص) بعد رجوعه وأصحابه من حرب ضارية (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)
ويقول الشاعر:
نفسي وشيطاني ودنياً والهوى               كيف الخلاص وكلهم أعدائي

اللهم اعصمنا من الزلل ووفقنا لخير العمل واجعل عواقبنا على خير.