الباب الثاني من علم المعاني: في حقيقة الإنشاء وتقسيمه

الإنشاء لغة: الزيادة في الإعمار بعد الإيجاد: قال الله تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)](1)
[وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ...].
نعم يستعمل أيضاً بابتداء الخلقه كالقول: وأنشأت قائلاً... أو إن الله أنشأنا من الأرض وأما الإنشاء في اصطلاح علم المعاني والبيان: فهو كلام لا يحتمل الصدق والكذب لذاته.
مثل: اللهم أغفر وار حم وتجاوز عما تعلم
فالدعاء والأمر والنهي لا يقال له كذبت أو صدقت لذات القول وإنما يمكن وصفه بالكذب أو الصدق باعتبار ما يلازمه من نفسية القائل مثلاً إذا تظاهر بالدعاء أو الصلاة أو الخشوع وما شابه ولم ينو ما تظاهر فيه فيقال أنه يكذب من حيث نفسه وليس من حيث لفظه لأنه لم يخبر بشيء وبذلك نزلت آيات عديدة ومنها.
[مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)](2).
فالفؤاد لم يخبر بشيء حتى يكذب أو يصدق فهي بمعنى التصديق المعنوي والتأثر بالمرئيات وليس من قبيل المحكيات.
وقال تعالى: [وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ](3).
فجعلهم كالمخبرين عن أنفسهم بأنهم أسلموا كاذبين بهذا الخبر وإنما هم كذبوا بأفعالهم وليس بأقوالهم وبعبارات أخرى.
إن الإنشاء هو مقابل الأخبار فهو القول لإيجاد شيء من عقد أو إيقاع أو أمر أو نهي.
بينما الأخبار هو القول عن شيء وقع أو سلب الوقوع عن شيء لم يقع والفرق بين العقد والإيقاع أن العقد لا يتم إلا من طرفين كالبيع والمشتري والمؤجر والمستأجر وإيجاب المرأة وقبول الرجل في عقد النكاح.
وأما الإيقاع فهو إنشاء من طرف واحد ولا يحتاج إلى قبول كما يقول طلقت زوجتي فلانة أو أوقفت بيتي مسجداً.
وأما الأمر والنهي وما شابه فهو أيضاً من طرف واحد أمراً أو ناهياً لغيره والإنشاء ينقسم إلى إنشاء طلبي يظهر من قولك أفعل وقولك لا تفعل.
وإنشاء غير طلبي وهو: المدح والذم والقسم والعقد والإيقاع وتعليم الأحكام وغيرها والتعجب والتمني.
وأما الرجاء فإن كان موجهاً إلى شخص معين كقولك أرجوك عظني فهو من نوع الطلب.
وإن لم يتوجه إلى أحدكما تقول (أرجو أن تحسن حالنا) فهو غير طلبي ومثله لعل حالنا أن يحسن.
ومن أدواته: لعل ورب وكم الخبرية.
والمدح: بنعم وبئس وحبذا ولا حبذا.
والقسم: بالواو والتاء والباء ويكون بكل المقدسات أولها الله تعالى.
وأما التعجب: فله صيغتان: افعل به بكسر العين وما أفعله بفتحها.
والرجاء: بلفظ الرجاء أو بعسى أو حرى أو أخلولق أو هو خليق.
وغير الطلبي لا يبحث في علم البلاغة لأن أكثر صيغه هي طلب في الأصل والقي بصورة التمني أو الرجاء أو التعجب وما شابه والطلب هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل فعلاً وأنواعه خمسة الأمر والنهي والاستفهام والتمني والنداء.


(1) المؤمنون 23/12 - 14 - 18 - 19.

(2) النجم 53/11 - 12.

(3) التوبة 9/90.