البحث الثانية فصاحة الكلام:

فصاحة الكلام: سلامته بعد فصاحة مفرداته وبعدها عن الإبهام والالتباس فيكون الكلام مفهوماً مستساغاً محبوباً سماعه ومعشوقاً قراءته كلماته واضحة وتركيبه هيناً والعيوب في الجمل ستة بحيث يكون الكلام غير فصيح:
1- تنافر الكلمات بينها.
2- ضعف التأليف.
3- التعقيد اللفظي.
4- التعقيد المعنوي.
5- كثرة التكرار.
6- تتابع الإضافات.
الأول: تنافر الكلمات مجتمعة: بحيث يستثقل السامع والقارئ هذا التركيب في تكوين الجمل وإن كان كل كلمة منه على إنفرادها فصيحاً والتنافر يحصل إما بتجاوز كلمات متقاربة المخارج للحروف وإما بتكرار كلمة واحدة.
وهو قسمان: الأول: شديد الثقل:
كالشطر الثاني:

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر


قاله قاتل حرب بن أمية وزعموا أن هذا القاتل هو الهاتف من الجن والقفر هو المكان الخالي من السكان والماء والكلاء.
وكلماته مألوفة وواضحة المعنىولكن التركيب ثقيل حتى قيل لا يستطيع أحد يكررها ثلاثاً سريعا ً.
وثانياً: خفيف الثقل:
كالشطر الأول في قول أبي تمام:

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا مالمته لمته وحدي


والثقل بسبب التنافر بين الحاء والهاء من حروف الحلق فإذا تكرر ثقل وإما تكرار لمته فليس بثقيل.
العيب الثاني ضعف التأليف:
وهو الغالب أن يكون مخالفاً للمشهور في تركيب الجملة بالنحو كوصل الضميرين وتقديم غير الأعرف على الأعرف.
كقول المتنبي:

خلت البلاد من الغزالة ليلها

فاعاضهاك الله كي لا تحزنا


يخاطب شخصاً قد بعدت عنه امرأة كان يرافقها في الليالي قد عوضه الله بغيرها
والمفروض أن يقدم الكاف فيقول (أعاضكها) لأن ضمير المخاطب مقدم على ضمير الغائب في النحو.
وكذلك كالأضمار قبل مرجعه الظاهر لفظاً ورتبة مثل

 

ولوان مجداً أخلد الدهر واحداً

من الناس أبقى مجده الدهر مطعم



فإن ضمير مجده راجع إلى مطعم بضم الميم وكسر العين وهو ابن عدي الطائي فالبيت غير فصيح.
الثالث: التعقيد اللفظي هو كون الكلام مخفي الدلالة على المراد منه والكلمات غير مرتبة بحسب المعنى المراد والتصعيد بسبب التقديم والتأخير والفصل بأجنبي مما يوجب اختلال المعنى واضطرابه كقول المتنبي:

جفخت وهم لا يجفخون بها بهم

شيم على الحسب الإغر دلائل



جخفت بمعنى فخرت وهي لفظة معقدة ويقشعر منها السمع ويسبب اضطراب المعنى وكذلك من جمع ضمير الدلائل المتأخرة مع ضمير أصحاب الشيم.
الرابع: التعقيد: كون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بحيث لا يفهم معنا إلا بمشقة بسبب إيراد اللوازم البعيدة وعدم ظهور قرائن تدل على المقصود كما في قول عباس بن أحنف:

سأطلب بعد الدار لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا


جعل الفراق وسيلة لقربهم منه لأن الفراق يسبب الشوق فيسبب قرب قلوبهم وجعل البكاء سبب برود العين والعيب فيه جعل جمود العين عما يوجبه التلاقي من الفرح والسرور بقرب الأحبة وجعل البعد علة للقرب وجمود العين أي متخشبة لا حراك فيها علة للفرح والسرور وهذا بعيد عن التصور أن يعلل الضد بضده ولم يعرف أن يدعى لإنسان بالسرور فيقال له أجمد الله عينكت وهو دعاء عليه بالموت غالباً
كما قال الشاعر في وصف مثل هذا الرجل

ولطالما اخترت الفراق مغالطاً


يعني أراد القرب واختار البعد لأن يقترب

(واحتلت في استثمار غرس ودادي)


فالبعد لا يثمر ولا يدل على الحب والود.

(ورغبت عن ذكر الوصال لأنها)



كيف لا يذكر الوصال وهو عاشق للوصال.

(تبني الأمور على خلاف مرادي)


ونتيجة تناقضه صار ذكر الوصال خلاف مراده
وبعض الشعراء قد عبر عن جمود العين كناية عن عدم الحزن كنا في قول الخنساء:

أعيني جودا ولا تجمدا

الا تبكيان لصخر الندى




وكما قال أبي عطاء يرثي ابن هبيرة:

(ألا أن عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود)



أن العين التي لم تجر عليك بالدموع في يوم واسط وهو يوم قتله فإنها عين جامدة بخيلة بالدمع وهكذا في الكنايات التي تستعملها العرب وتؤثر عنهم والعيب أن يغيرها المتكلم.
العيب الخامس كثرة التكرار سواء كان فعلا أو اسما أو حرفا أو كان اسماً ظاهراً أو ضميراً كقول الشاعر:

إني واسطار سطرا سر

لقائل يا نصر نصر نصراً




فهذا عيب التكرار وهو لا يزيد معنى لأن المعنى يكمل لو قال يا نصر نصراً وكذا لو قال وأسطار سطرت والعيب الثاني أنه عبر عن الاسطار بنون النسوة فإنه يعبر عن جمع الذكور بتاء النسوة لا إشكال ولم يعبر بنون النسوة فيقال جاءت الجماعة أو الجماعات ولا يقال جماعة الرجال جئن والسطر مذكر والأسطار جمع ذكور.
وكقول المتنبي:

اقل أن أقطع أجمل على سل عد

رد هشى بش تفضل أدن سرصل


أراد أن يعطي عدة أوامر أو توصيات فضاق به القلم والورق فجاء في سطر واحد والمستحسن أن يوسع ولا يختصر الذي يبعد القارئ عن فهم المراد فأقل من القلة تقليلا وأنل نوالاً واقطع تقطيعاً وأجمل إجمالاً أي لا تفصل ولا تشرح أو من الجمال وعل من العلو بضم العين وسل من السؤال وعد من الوعد أو العدة من الاستعداد وزد من الزيادات أو رد من الرد أي ارجاع الشيء وهش من الليونه وهي الهشاشة وبش من البشاشة أي ظهور السرور على الوجه وتفضل من التفضل أي الاحسان وأدن من الدنو وسر بكسر السين من السير أو بضمها من السرور وصل من الوصل فما هو الجامع المراد؟ ما أدري فالمعنى في بطن الشاعر وكقول أب تمام في المديح:

كأنه في اجتماع الروح فيه له

في كل جارحة عن جسمه روح



كرر الروح والضمير الراجع إليه مرة فيه وأخرى له ومعنى الشعر مغلق فان اجتماع الروح غير واضح بالمدح وأنه تحصيل حاصل لأن كل هي تجتمع فيه الروح وأنها في كل عضو منه والعيب فيه ليس هو كثرة التكرار ويمكن أن تمثل للتكرار بالقول:

أرجوك رجاء راجي

أرجو النجاة نجاة

فأنت تقضي قضائي

أن تقضي قضاء حاجي

أرجو النجاة لجاجي

وإليك فيك هياجي



العيب السادس: تتابع الإضافات:
كقول ابن بابك:

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع


جرعا مؤنث الأجرع وهو المكان ذو الحجارة السوداء أو الرمل الذي الذي لا ينبت النبات فيه

وحمامة مضاف إلى جرعا وجرعا مضاف إلى حومة وهو المكان الجامع للعسكر أو لأي شيء وحومة مضاف إلى الجندل بفتح فسكون وهو الحجر والجنادل الصخور العظيمة أو الأحجار كذلك والعامة تقول للرجل البطل العظيم الجثة طولا وعرضا أنه جنتلة أو جندلة.