تتمة لعموم البلاغة

قد علمت أن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال
وقد يقضي الحال الخروج عن الأصل وهو عدم التكرار وعدم التعقيد وعدم التقصير وهكذا وقد بينا الخروج
ولا بأس أن نبين أموراً أخرى مهمة يسلكها البلاغيون في دروسهم والبلغاء في كتبهم وخطابهم
الأول: الالتفات: وهو انتقال المتكلم من الغيبة إلى الخطاب ومن الكلام عن الفرد إلى الجمع ومن الإناث إلى الذكور وهكذا لمناسبات محسنة فصور الانتقال هي:
1 - من التكلم إلى الخطاب كقوله تعالى: [وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون] والقياس وإليه أرجع.
2 - بالعكس: قوله تعالى:[ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ].
3 - من التكلم إلى الغيبة: [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ].
4 - عدول من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى:[ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ].
5 - من الغيبة إلى المتكلم كقوله تعالى:[ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا].
6 - من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ].
الثاني: تجاهل العارف بحيث يسوق المعلوم مساق المجهول وذلك لعدة أغراض منها:
1 - التعجب نحو قوله تعالى:[ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ].
2 - المبالغة في المدح كقول الشاعر: وجهك بدر أم شمس.
3 - المبالغة في الذم كقول الشاعر:

وما أدري وسوف أخال أدري

 

أقوم ال حصن أم نساء.


4 - التوبيخ للجماد من شدة الجزع كقول أخت طريف

أيا شجر الخابور مالك مورقا

 

كأنك لم تجزع على ابن طريف.


5 - شدة الشوق من العاشق السخيف.

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

 

ليلاي منكم أم ليلى من البشر.


6 - والفخر على الآخرين قول الشاعر:

أينا تعرف المواقف منه

 

وثبات على العدا وثبات.


الثالث القلب: وهو جعل كل من الجزأين في الكلام مكان صاحبه لغرض المبالغة نحو قول رؤبة

 

ومهمة مغبرة أرجاؤه

 

كأن لون أرضه سماؤه.


والمهمة هي المغازة البعيدة أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه ونحو دخلت الخاتم في أصبعي والقياس أدخلت أصبعي في الخاتم وعرضت الناقة على الحوض والقياس عرضت الحوض على الناقة لأن العرض لا يحصل إلا على ذي الحاسة.
الرابع: التعبير عن المضارع بلفظ الماضي وهو في القرآن كثير:
1 - لتحقق معناه مثل [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ] أي يأتي وكذا التعبير عن القيامة والعذاب والجنة وما شابه فإن في القرآن آيات كثيرة بلفظ الماضي.
2 - أو قرب وقوعه نحو قد قامت الصلاة.
3 - أو التفاؤل والدعاء نحو: شفاك الله ويسر أمرك إذا قدمت معي.
4 - التعريض بمذموم: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ].
يعني أن المشركين من المنافقين يحبط الله عملهم بالإسلام وهذه ليست في المشركين بالله لأن المشرك غير المسلم لا عمل له مقبول حتى يحبط.

الخامس بالعكس لأغراض:

1 - حكاية الحال الماضية باستحضار الصورة الغريبة في الخيال كقوله تعالى [الله الذي أرسل سحابا] يعني فأشارت والسبب أن التعبير بالمضارع هو أن إرسال الرياح والإثارة مستمر وإن كان القرار الإلهي قد مضى من أول الخلقة.
2 - إفادة الاستمرار فيما مضى كقوله تعالى:[ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ].
السادس التعبير عن المستقبل بلفظ اسم الفاعل نحو قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ] [إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ].
أو لفظ اسم المفعول نحو قوله تعالى: [ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ].
لأن الوصفين حقيقة في الحال مجاز في ما سواه.
السابع وضع المضمر بدل الظاهر وبالعكس نحو هو الله العادل والأصل الله هو العادل.
وخير الناس من نفع الناس والأصل خير الناس من نفعهم. أعيد الظاهر لزيادة التمكين.
أو لإلقاء المهابة في نفس السامع مثل: الوالي يأمر بكذا يقول عن نفسه أو يقول: أنا آمر بكذا.
أو للاستعطاف: نحو

أتأذن يا مولاي لعبدك

 

أو لمحبك أو لصغيرك.


الثامن: التغليب وهو ترجيح أحد الشيئين على الآخر في أطلاق لفظه عليه.
1 - كتغليب الذكر على الأنثى كقوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا](1).
غلب علي والحسن والحسين ومن قبلهم محمد صلى الله عليه وآله على فاطمة صلوات الله وآلهم حيث نزلت فيهم الآية في حادثة الكساء وكذا قوله تعالى [وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ](2) والقياس ان يقول من القانتات.
وغلب اسم الأب على الأم فقيل أبوان والقمر على الشمس فقيل قمران والشمس النيرة على القمر استفاد النور فقيل النيران.
2 - تغليب الأشد على الضعيف فقيل الحسنان للحسن الذي أمكن بالحسن على الحسين الذي مصغر الحسن.
3 - وتغليب الأكثر على الأقل كقوله تعالى [لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا].
قولهم تعدون دعوى غير صحيحة لأنه لم يكن في ملتهم حتى يعود إليها وإنما قالوا ذلك لأنه واحد وضعيف بالنسبة إليهم.
4 - تغليب العاقل على غيره (الحمد لله رب العالمين) وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


(1) الأحزاب 33/33.

(2) التحريم: آخرها.