البحث الرابع في مجمل مواضع الفصل:

الأصل في الجمل المتتالية أن تربط بالعاطف على نسق واحد ويتخالف هذا لأسباب ويترك العطف وكل جملة حينئذ تسمى فصلاً ويقع الكلام في خمسة مواضع:
1 - أن يكون بين الجملتين اتحاد تام وامتزاج معنوي ويسمى ذلك: كمال الاتصال.
الموضع الثاني: أن يكون بين الجملتين تباين تام بدون إيهام خلاف المراد ويسمى ذلك كمال الانقطاع.
الموضع الثالث أن يكون بين الجملتين رابطة قوية ويسمى ذلك شبة كمال الاتصال.
الموضع الرابع: بين الجملتين جملة ثالثة حائلة بينهما فلو عطفت الثالثة على الأولى لتوهم أنها معطوفة على المتوسطة فيترك العطف ويسمى ذلك: ذلك كمال الانقطاع.
الموضع الخامس: أن يكون بين الجملتين تناسب وارتباط لكن يمنع من عطفهما مانع وهو عدم قصد اشتراكهما في الحكم ويسمى ذلك التوسط بين الكمالين.
وتفصيل ذلك قد تتقارب الجمل تماما ولكن مع ذلك تقطع الصلة بينهما أما الاختلاف أجزاء الجملة كأن تكون أحدهما إنشائية والأخرى خبرية وأما لتباعد معناهما بحيث لا يكون بين المعنين مناسبة فيجب الفصل في كل المواضع الآتية:
1 - كمال الاتصال وهو الاتحاد تماما وامتزاجا معنوياً بحيث تنزل الثانية بمنزلة البدل من الأولى أ - نحو قوله تعالى: [وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ].
فأمدكم الثانية بدل البعض من الأولى.
ب - وأما بدل الكل فنحو قوله تعالى: [بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ].
ج - [أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ].
مجملة قالوا أئنا... كالبدل المطابق
د - وأما بدل الاشتمال فنحو قول الشاعر.

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

 

وإلا فكن في السر والجهر مسلما


فجعل لا تقيمن بمنزلة البدل من (ارحل) بدل اشتمال بينهما بمناسبة الكلية والجزئية.
هـ - أو بأن تكون الجملة الثانية بيانا لإبهام في الأولى كقوله سبحانه [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ].
فجملة قال) بيان لما وسوس إليه.
و - أو بأن تكون الثانية مؤكدة للأولى توكيداً لفظياً أو معنوياً كقوله تعالى: [فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا].
وكقوله [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ  (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا].
فالمانع من العطف هنا هو اتحاد الجملتين اتحاداً تاماً بحيث لو حصل العطف لكان على نفسه فيجب الفصل.
2 - كمال الانقطاع وهو اختلاف الجملتين اختلافاً تاماً:
أ - اختلافهما خبراً وإنشاءً ولفظا ومعنى أو معنى فقط نحو حضر الأمير حفظه الله) أو (تكلم أني مصغ إليك وكقول الشاعر:

 

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

 

فحتف كل امرئ يجري بمقدار


أي أوقفوا السفينة على الساحل حتى نز أول الحرب ولا تخافوا الموت فإن لكل أجل كتاباً فالمانع من العطف أمر ذاتي هو كون أحدهما خبرية والأخرى إنشائية ولا جامع بينهما.
ب - أو إن لا تكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط بل كل منهما مستقل عن الأخرى كقولك: علي ذهب إلى المدرسة أبي فتح المحل وكقول الشاعر: إنما المرء بأصغريه كل امرئ رهن بما لديه فلا يمكن الجمع ذاتا للتباين التام لأن العطف للربط ولا ربط هنا.
3 - شبه كمال الاتصال وهو كون الثانية قوية الارتباط بالأولى لجوابها سؤالا في مضمون الأولى فتنفصل عنها كما ينفصل الجواب عن السؤال كقوله تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
وكقول الشاعر:

زعم العواذل إنني في غمرة

 

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي


والجواب كأنه قد سأل سائل اصدقوا أم كذبوا في زعمهم.
ونحو: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
في جواب سؤال مقدر: لم كان السيف أصدق أو في أي شيء كان أصدق فأجاب: في حده الحد
فالمانع من العطف هو شدة الربط بين الجملتين.
4 - شبه كمال الانقطاع:
وهو أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفها على الأولى لوجود المناسبة ولكن العطف يفسد المعنى فيترك العطف نحو وتظن سلمى إنني ابغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم
فجملة (أراها) يصح عطفها على تظن ولكن قد منع بالجملة المتوسطة (أبغي) فلو عطفت أراها لأوهم أنها من ظنونها أيضاً وليس كذلك فالمانع هو أمر خارجي احتمالي وبهذا تبين الفرق بين كمال الانقطاع وشبه كمال الاحتمال.
5 - التوسط بين الكمالين مع وجود المانع وهو كون الجملتين متناسبتين وبينهما رابط
ولكن يمنع من العطف عدم التشريك بالحكم كقوله تعالى: [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ].
فجملة يستهزئ) لا يصح عطفها على (أنا معكم) لأنها توهم أنها مقولة المنافقين والحال أنها دعاء عليهم ولا على جملة (قالوا).

لأنها توهم أنها مقيدة أيضاً بالظرف (معكم) وإن استهزاء الله مقيد بحال خلوهم من الشياطين والصحيح أن استهزاءه بهم غير مقيد بذلك فوجب الفصل.